إدارة الشئون الفنية
تنزل الرحمات في يوم عرفات

تنزل الرحمات في يوم عرفات

14 يونيو 2024

خطبة الجمعة المذاعة والموزعة

بتاريخ 8 من ذي الحجة 1445 هـ - الموافق 14 / 6 / 2024م

تَنَـزُّلُ الرَّحَمَاتِ فِي يَوْمِ عَرَفَاتٍ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، وَبَاعِثِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْبِلَى وَالْمَمَاتِ؛ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى وَالَّذِينَ أَسَاءُوا بِالسَّيِّئَاتِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ يُبَاهِي أَهْلَ السَّمَاءِ بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ، وَيَهَبُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ وَيَغْفِرُ لَهُمُ التَّبِعَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، شَرَحَ اللهُ لَهُ صَدْرَهُ، وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَأَعْلَى شَأْنَهُ بَيْنَ الْكَائِنَاتِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أُولِي الْفَضَائِلِ وَأَرْبَابِ الْمَكْرُمَاتِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا مَا أَضَاءَتِ الشَّمْسُ وَأَشْرَقَتِ الْكَوَاكِبُ النَّيِّرَاتُ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ وَكُفُّوا النُّفُوسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَاغْتَنِمُوا هَذِهِ الْأَوْقَاتَ الْمُبَارَكَةَ الصَّالِحَةَ قَبْلَ فَوَاتِهَا؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَكُمْ لِتَعْبُدُوهُ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لِتَشْكُرُوهُ. )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ( [الأنفال:29].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

إِنَّ اللهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدِ اخْتَارَ مِنَ الْأَمْكِنَةِ بِقَاعاً فَفَضَّلَهَا عَلَى غَيْرِهَا تَفْضِيلًا، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَزْمِنَةِ أَيَّاماً وَأَوْقَاتاً فَجَعَلَ لَهَا عَلَى سِوَاهَا مَزِيَّةً وَكَلَّلَهَا بِهَا تَكْلِيلًا، وَإِنَّ مِمَّا اصْطَفَاهُ اللهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ: يَوْمَ عَرَفَةَ؛ إِذْ جَعَلَ لَهُ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَائِدِ، وَمَيَّزَهُ بِالْمَنَافِعِ وَالْعَوَائِدِ؛ فَهُوَ مِنَ الْأَعْيَادِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَالْبَهْجَةِ وَالْحُبُورِ، وَيُسَرُّونَ بِهَا فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا عِبَادَةً وَشُكْرًا، وَصِيَاماً وَدُعَاءً وَذِكْرًا؛ فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ: عِيدُنَا -أَهْلَ الْإِسْلَامِ-، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ].

إِنَّهُ لَمَشْهَدٌ عَظِيمٌ -يَا عِبَادَ اللهِ- وَمَوْقِفٌ لِأَهْلِ الْمَوْسِمِ كَرِيمٌ، يَجِلُّ عَنِ النَّعْتِ وَالصِّفَةِ، وَيُبَشِّرُ بِالْفَضْلِ الْعَمِيمِ لِمَنْ وَقَفَهُ، يُبَاهِي اللهُ بِأَهْلِهِ أَهْلَ السَّمَاءِ، وَيُحِبُّ الْمُنَاجَاةَ فِيهِ وَيَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ، تُسْكَبُ فِيهِ الْعَبَرَاتُ، وَتُقَالُ الْعَثَرَاتُ، وَتُفَاضُ الرَّحَمَاتُ، وَتُرْفَعُ الدَّرَجَاتُ، وَتُحَطُّ الْخَطَايَا وَالسَّيِّئَاتُ، وَيُلِظُّ النَّاسُ فِيهِ بِالدُّعَاءِ بِشَتَّى اللُّغَاتِ وَاللَّهَجَاتِ، فَكَمْ مِنْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ، وَنِعْمَةٍ مُسْتَطَابَةٍ!، وَكَمْ مِنْ بَلِيَّةٍ مَرْفُوعَةٍ، وَنِعْمَةٍ مَدْفُوعَةٍ!، وَذَنْبٍ مَغْفُورٍ، وَسَعْيٍ مَشْكُورٍ، وَتِجَارَةٍ لَنْ تَبُورَ!، إِنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، يَوْمٌ عَظَّمَ اللهُ أَمْرَهُ، وَرَفَعَ عَلَى الْأَيَّامِ قَدْرَهُ، وَأَفَاضَ عَلَيْنَا فِيهِ مِنَ النِّعَمِ مَا يُوجِبُ شُكْرَهُ؛ حَيْثُ سَعَتْ إِلَيْهِ وُفُودُ اللهِ مِنْ كُلِّ مَوْطِنٍ وَإِقْلِيمٍ، مُلَبِّينَ دَعْوَةَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ ) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ( [الحج:27-29]. أَجَلْ: إِنَّهُ يَوْمٌ أَقْسَمَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالَ: ) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ( [الفجر:3]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَغَيْرُهُ: (الْوَتْرُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّفْعُ يَوْمُ النَّحْرِ).

وَهُوَ الْيَوْمُ الْمَشْهُودُ الَّذِي أَقْسَمَ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: ) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ( [البروج:3]؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ].

وَفِيهِ أَنْزَلَ اللهُ آيَةَ إِكْمَالِ الدِّينِ، وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رَحِمَهُ اللهُ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ -مَعْشَرَ الْيَهُودِ- لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا( [المائدة:3] فَقَالَ عُمَرُ: (إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].

عِبَادَ اللهِ:

وَفِي عَرَفَةَ أَخَذَ اللهُ الْمِيثَاقَ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِتَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، وَتَعْظِيمِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَأَعْظِمْ بِهِ مِنْ يَوْمِ وِثَاقٍ!، وَأَكْرِمْ بِهِ مِنْ مِيثَاقٍ!؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ- يَعْنِي عَرَفَةَ - فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا، قَالَ: )أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ( [الأعراف:172-173] [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ شَاكِرٍ].

وَأَيُّ فَضْلٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُبَاهِيَ رَبُّ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ؟! فَتَعُمُّ نِعْمَتُهُ، وَتَشْمَلُ مَغْفِرَتُهُ، وَتَعْظُمُ مَكْرُمَتُهُ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ؛ فَيَقُولُ لَهُمُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثاً غُبْرًا» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ].

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:

وَفِي هَذَا الْيَوْمِ الْأَغَرِّ، وَالْمَوْسِمِ الْأَزْهَرِ؛ يَكْثُرُ عُتَقَاءُ اللهِ مِنَ النَّارِ، وَتَتَنَزَّلُ رَحَمَاتُ الرَّحِيمِ الْغَفَّارِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ؛ فَيَقُولُ: (مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَهْبِطُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُ: عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا مِنْ كِلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ؛ يَرْجُونَ رَحْمَتِي، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ الرَّمْلِ، أَوْ كَقَطْرِ الْمَطَرِ، أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ لَغَفَرَهَا، أَوْ لَغَفَرْتُهَا، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ» [رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ].

وَفِي عَرَفَةَ يَتَفَضَّلُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْمَهِيبِ، فَيَهَبُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَيُعْطِي مُحْسِنَهُمْ مَا سَأَلَ؛ فَعَنْ بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ غَدَاةَ جَمْعٍ [يَعْنِي: صَبِيحَةَ لَيْلَةِ مُزْدَلِفَةَ]: «يَا بِلَالُ أَسْكِتِ النَّاسَ أَوْ (أَنْصِتِ النَّاسَ)، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَطَوَّلَ [أَيْ: تَفَضَّلَ] عَلَيْكُمْ فِي جَمْعِكُمْ هَذَا؛ فَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، وَأَعْطَى مُحْسِنَكُمْ مَا سَأَلَ، ادْفَعُوا بِاسْمِ اللَّهِ» [رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- وَأَحْسَنَ إِلَيْكُمْ فِي اجْتِمَاعِكُمْ هَذَا فِي هَذِهِ الْمَشَاعِرِ؛ لِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، فَوَهَبَ مُذْنِبَكُمْ بِلَا مُقَابَلَةِ عَمَلٍ صَالِحٍ مِنْهُ مَوَاهِبَ كَثِيرَةً، وَمِنْهَا: غُفْرَانُ ذُنُوبِهِ لِأَجْلِ اجْتِمَاعِهِ مَعَ مُحْسِنِكُمْ، وَأَعْطَى مُحْسِنَـكُمْ وَصَالِحَكُمْ مَا سَأَلَ مِنَ الْجَزَاءِ الْوَافِرِ عَلَى عَمَلِهِ الصَّالِحِ.

وَفِي هَذَا الْمَوْقِفِ يَسْتَجِيبُ اللهُ دُعَاءَ الدَّاعِينَ، وَتَوَسُّلَ الْمُتَوَسِّلِينَ، وَيَرْأَفُ لِانْكِسَارِ الْمُنْكَسِرِينَ، وَيَقْبَلُ تَوْبَةَ التَّائِبِينَ، فَدُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ خَيْرُ الدُّعَاءِ، وَرَجَاؤُهُ أَعْظَمُ الرَّجَاءِ ؛ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ].

أَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِنَوَالِ فَضْلِ عَرَفَةَ، وَأَنْ نَكُونَ مِمَّنْ قَامَ بِحَقِّهِ وَعَرَفَهُ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ، وَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِمَوَاسِمِ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَسْبَغَ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً عَلَى بَنِي الْإِنْسَانِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهِ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَعَدَ أَهْلَ التَّقْوَى بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ رَحْمَةً إِلَى الْإِنْسِ وَالْجَانِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أُولِي الْفَضْلِ وَالْعِرْفَانِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً إِلَى يَوْمِ الْعَرْضِ عَلَى الْمَلِكِ الدَّيَّانِ. 

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَدًا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ مَوْقُوفُونَ، وَعَلَى أَعْمَالِكِمْ مَهْمَا دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ مَجْزِيُّونَ ) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ( [الزلزلة:7-8].

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:

وَمِنْ فَضَائِلِ يَوْمِ عَرَفَةَ الْمُبَارَكِ: أَنَّ صِيَامَهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ؛ فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].

وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ هُوَ رُكْنُ الْحَجِّ الْأَكْبَرُ وَفَرْضُهُ الْأَعْظَمُ، فَلَا حَجَّ لِمَنْ لَمْ يَقِفْ فِيهِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ].

وَفِيهِ يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ وَيَتَلَاقَوْنَ مُتَجَرِّدِينَ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا وَأَوْضَارِهَا، تَجْمَعُهُمْ أُخُوَّةُ الْإِيمَانِ وَوَحْدَةُ الْعَقِيدَةِ وَثِمَارُهَا، لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا تَمَايُزَ بِجِنْسٍ عَلَى جِنْسٍ، وَلَا بِقَبِيلَةٍ عَلَى قَبِيلَةٍ، وَلَا بِوَطَنٍ عَلَى وَطَنٍ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ أَقْطَارُهُمْ، وَتَنَاءَتْ دِيَارُهُمْ، وَتَنَوَّعَتْ أَمْصَارُهُمْ، فَرَحِمُ الْإِسْلَامِ جَمَعَهُمْ وَإِنْ فَرَّقَتْهُمْ أَرْحَامُ الْأُمَّهَاتِ؛ مِصْدَاقاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ( [الحجرات:10] يَقِفُونَ عَلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَيَدْعُونَ رَبّاً وَاحِدًا، يُجَسِّدُونَ الشُّعُوبَ الْمُتَبَاعِدَةَ؛ بِأُمَّةٍ مُسْلِمَةٍ وَاحِدَةٍ )إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ( [الأنبياء:92].

ثُمَّ يُفِيضُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، إِلَى مَشْعَرٍ حَرَامٍ وَاحِدٍ، ) فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( [البقرة:198- 199].

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:

وَلِمَوْقِفِ عَرَفَةَ الْمَهِيبِ مَوَاقِفُ رَهِيبَةٌ، وَأَحْوَالٌ عَجِيبَةٌ، عُرِفَ بِهَا تَوَاضُعُ الصَّالِحِينَ، وَأَدَبُ الْعَابِدِينَ، وَخُشُوعُ الزَّاهِدِينَ.

وَقَفَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ وَبَكْرٌ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُمَا اللهُ- بِعَرَفَةَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: (اللَّهُمَّ لَا تَرُدَّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ مِنْ أَجْلِي، وَقَالَ الْآخَرُ: مَا أَشْرَفَهُ مِنْ مَوْقِفٍ وَأَرْجَاهُ لِأَهْلِهِ لَوْلَا أَنِّي فِيهِ).

وَكَانَ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقِفُ بِعَرَفَةَ وَمَعَهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ مُقَلَّدَةٌ، وَمِائَةٌ مِنَ الرَّقِيقِ، فَيُعْتِقُ رَقِيقَهُ فَيَضِجُّ النَّاسُ بِالْبُكَاءِ وَالدُّعَاءِ؛ يَقُولُونَ: رَبَّنَا هَذَا عَبْدُكَ قَدْ أَعْتَقَ عَبِيدَهُ، وَنَحْنُ عَبِيدُكَ فَأَعْتِقْنَا.

فَهَنِيئاً لِمَنْ أَخْلَصَ وَاتَّبَعَ الرَّسُولَ، وَرُزِقَ التَّوْبَةَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَوُفِّقَ لِلْقَبُولِ.

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَوُلَاةَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنّاً، بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالْعَدْلِ وَالْإِيمَانِ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة

الرقعي - قطاع المساجد - مبنى تدريب الأئمة والمؤذنين - الدور الثاني